قصة معركة اليرموك

كتابة سالي - تاريخ الكتابة: 6 سبتمبر, 2018 6:15
قصة معركة اليرموك


قصة معركة اليرموك معركة اليرموك من المعارك التاريخية ذات الاحداث الكثيرة والتى سنقوم بسردها تباعاُ فى هذه المقالة.
معركة اليرموك، وقعت عام 15 هـ (636) بين المسلمين والروم (الإمبراطورية البيزنطية)، ويعتبرها بعض المؤرخين من أهم المعارك في تاريخ العالم لأنها كانت بداية أول موجة انتصارات للمسلمين خارج جزيرة العرب، وآذنت لتقدم الإسلام السريع في بلاد الشام. المعركة حدثت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عام 632 بأربع سنوات.
قررت الجيوش الإسلامية الانسحاب من الجابية بالقرب من دمشق إلى اليرموك بعد تقدم جيش الروم نحوهم. تولَّى خالد بن الوليد القيادة العامة للجيش بعد أن تنازل أبوعبيدة بن الجراح، كانت قوات جيش المسلمين تعدّ 36 ألف مقاتل في حين كانت جيوش الروم تبلغ 240 ألف مقاتل.

أرض المعركة

اليرموك نهر ينبع من جبال حوران، يجري قرب الحدود بين سوريا وفلسطين، وينحدر جنوبا ليصب في غور الأردن ثم في البحر الميت، وينتهي مصبه في جنوب الحولة، وقبل أن يلتقي بنهر الأردن بمسافة تتراوح بين ثلاثين وأربعين كيلو مترا يوجد واد فسيح تحيط به من الجهات الثلاث جبال مرتفعة شاهقة الارتفاع، ويقع في الجهة اليسرى لليرموك.
اختار الروم هذا الوادي لأنه المكان الذي يتسع لجيشهم الضخم الذي عدده مائتين وأربعين ألف مقاتل. وأما المسلمون فقد عبروا النهر إلى الجهة اليمنى، وضربوا معسكرهم هناك في واد يقع على الطريق المفتوح لجيش الروم، وبذلك أغلقوا الطريق أمام الجيش المزهو بعدده وعدده، فلم يعد للروم طريق يسلكون منه، أو يفرون إذ اضطروا للفرار، لأن جيش المسلمين قد أخذ عليهم مسلكهم الوحيد. وقد يعجب الإنسان كثيراً، وهو ينظر إلى الخارطة، ويرى نفسه مضطراً لأن يسأل كيف رضي قواد الروم لجيوشهم هذا الموقع؟ وكيف وافق الجنود على النزول فيه وهم يرون ألا سبيل للخروج منه إلا عن طريق هذا الوادي الذي احتله المسلمون؟
أفما كان الأجدر بهم إن اضطروا إلى اتخاذ هذا المكان ميداناً للجيش لأنه لا يوجد مكان سواه يتسع لجيشهم أن يحموا الفتحة الوحيدة التي لا طريق لهم غيرها؟ لاشك أن البديهيات العسكرية تحتم حماية أمثال هذه الفتحة ليؤمن الجيش طريقه إذا اضطر إلى الخروج من هذا الوادي المحاصر بشواهق الجبال. ولكن يبدوا أن قوات الروم كانت مغرورة بكثرتها الهائلة مزهوة بالنصر الذي أحرزته على خالد بن سعيد ومن معه من قوات المسلمين، كما يبدو أن هذا النصر أنساهم أبسط التخطيط العسكري في مثل هذا الموقف. ازداد حماس الخليفة لفتح الشام بعد ما أصاب خالد بن سعيد وجنده من الهزيمة والفرار، فندب أعظم قواده للذهاب إلى بلاد الشام، فأمر عمرو بن العاص على فرقة من الجيش وأمره أن يتجه بها إلى فلسطين، واستدعى يزيد بن أبي سفيان وولاه على جيش فيهم سهيل بن عمر وأمثاله من أهل مكة، وألحقه بجيش آخر بقيادة أخيه معاوية، ووجه شرحبيل بن حسنة ليقود جماعة من جيش خالد بن سعيد، وندب الخليفة جيشاً عظيماً وأمَّر عليه أبا عبيدة بن الجراح وعين لكل جيش طريقه، وأمره أن يسلكه حتى يصل إلى مقره. فأخذ عمرو بن العاص طريق المعرقة. وسلك أبو عبيدة الطريق نفسه، وأخذ يزيد بن أبي سفيان طريق التبوكية وسلكه معه شرحبيل بن حسنة، وتوجه الأمراء إلى الشام، فلما وصلوها نزل أبو عبيدة الجابية، ونزل يزيد البلقاء، ونزل شرحبيل الأردن، ونزل عمرو بن العاص العربة.

قادة الجيش الإسلامي

1- أبو عبيدة عامر بن الجراح -رضى الله عنه- يقود كراديس القلب.
2- عمرو بن العاص -رضى الله عنه- يقود كراديس الميمنة.
3- يزيد بن أبي سفيان يقود كراديس الميسرة.
بعض قادة الكراديس:
• عياض بن غنم -رضى الله عنه.
• القعقاع بن عمرو التميمي -رضى الله عنه.
• هاشم بن عتبة -رضى الله عنه.
• زياد بن حنظلة -رضى الله عنه.
• امرؤ القيس -رضى الله عنه.
• عكرمة بن أبي جهل -رضى الله عنه.
• عبدالرحمن بن خالد بن الوليد وهو يومئذ ابن ثماني عشرة سنة.
• حبيب بن مسلمة -رضى الله عنه.
• صفوان بن أمية -رضى الله عنه.
• عبدالله بن قيس -رضى الله عنه.
• عمرو بن عبسة -رضى الله عنه.
• الزبير بن العوام -رضى الله عنه.
• ضرار بن الأزور -رضى الله عنه.
عن سماك بن حرب، عن عياض الأشعري -رضى الله عنه-، قال: “شهدت اليرموك، وعليها خمسة أمراء أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل ابن حسنة، وخالد بن الوليد، وعياض، – وليس عياض صاحب الحديث الذي يحدث سماك عنه – “.
القاضي: أبو الدرداء -رضى الله عنه.
القاص: أبو سفيان بن حرب -رضى الله عنه.

الاستعدادات النهائية للمعركة:

بعد صلاة الفجر يقترب الجيش الرومي من الجيش الإسلامي ويبدأ الاستعداد للقتال في اليوم الثاني 5 من رجب سنة 15هـ, وكان هذا اليوم صحوًا ليس فيه مطر؛ فعَلِمَ المسلمون أن القتال سيدور في هذا اليوم، وأتى الروم في جموع كالسَّيْل والليل كما يقول الرواة، وهذا تشبيه صائب ودقيق؛ لأننا ذكرنا أن الجيش الرومي اصطف في أرض مساحتها حوالى 10 كيلومترات، وقد صفَّه قادته صفوفًا؛ فصفوف المشاة عشرون، وعددهم كان 120 ألف جنديٍّ من المشاة، إذًا عرض الجيش الرومي 6000 فرد في عشرين في العمق, ولو حسبنا أن لكل واحد من الجنود مترًا ونصفا يتحرك فيه فمعنى ذلك أن عرض الجيش الرومي 9 كيلومترات، أي 9000 متر؛ فأقبلوا على المسلمين كالسيل لا يُرَى أوله من آخره، وفرسان الروم كانوا 80 ألف فارس، هذا في أصح الروايات، ولكن بعض الروايات تذكر أن الجيش الرومى كان 240 ألف وليس 200 ألف فقط، وروايات أخرى تذكر أنهم 400 ألف, وهذه الروايات جاءت على لسان باهان قائد الروم نفسه عندما كان يخاطب جيشه فيقول لهم: أنتم 400 ألف, أنتم عشرة أضعافهم، ويبدو -والله أعلم- أنه كان يحمِّس جيشه، ولكن الصحيح -والله أعلم- أن عدد الجيش الرومي كان 200 ألف مقاتل: 80 ألف فارس و120 ألفًا من المشاة؛ منهم 30 ألف جنديٍّ من المشاة مسلسلين في القيود: كل عشرة في قيد وذلك ليمنعوا هروبهم وفرارهم من المعركة، ويبدو أن هؤلاء الـ 30 ألفًا هم من جُمِعُوا بالقوة والإجبار والإكراه وليسوا ممن تطوع لمحاربة المسلمين فى هذه المعركة.
وأقبل الروم ولهم دويٌّ كدوي الرعد وأثاروا غبارًا شديدًا، وجاءوا بأعداد ضخمة رافعين الصلبان وواضعين على مقدمتهم القساوسة والرهبان الذين جعلوا يحمسون الجنود، ويقولون لهم: إن هذه معركة بين الإسلام والمسيحية؛ لِيُلقوا في قلوبهم الحمية لقتال المسلمين، وهم يعلمون أن هؤلاء الرهبان ذاتهم قد فرُّوا من المسلمين من قبل في كثير من المواقع وليس في موقعة واحدة، ويتقدم الجيش الرومي ناحية الجيش المسلم في وقع يهز أشد القلوب جسارة، وأشد النفوس قوة، ولكن يبدو -وسبحان الله- أن الجيش الإسلامي ليس من البشر، فما حوله لا يهزه ولا يحرِّك له ساكنًا؛ فثبت المسلمون ولم يلتفتوا إلى هذه الأعداد الضخمة الرهيبة القادمة من ناحية الروم بل زادتهم إيمانًا {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران 173: 175].
واتخذ الطرفان استعداداتهما ، الروم في أربعين ومائتي ألف ، منهم ثمانون ألفاً مقيدين بالسلاسل كي لا يفروا من المعركة ، والمسلمون سبعة وعشرون ألفاً ممن كان مقيماً ، إلى أن قدم إليهم خالد في تسعة آلاف فبلغوا ستة وثلاثين ألفاً ، ومرض الصديق في هذه الأثناء وتوفي للنصف من جمادى الآخرة قبل الفتح بعشر ليال.
ثم خرج من عند الروم قائد عظيم من قوادهم وهو (جورجه) وفي روايات اسمه (جرجه) وقيل: إن اسمه (جورج)، ولكن هذا الرجل العظيم المشهور في التاريخ الإسلامي خرج وطلب خالد بن الوليد، فخرج له خالد أمير الجيوش كلها؛ فلما اقتربا، وكل منهما رافع سيفه وماسك درعه، طلب جورجه الأمان من سيدنا خالد بن الوليد؛ فأمنه خالد وخفض سيفه، فخفض الآخر سيفه ولكن احتمى كل منهما بدرعه يخشى الخيانة من الآخر، واقترب جورجه وخالد بن الوليد في وسط الأرض، بين الجيش المسلم وبين الجيش الرومي ودار بينهما حوار عجيب:
قال جورجه: يا خالد اصدقني؛ فإن الحرَّ لا يكذب، ولا تخدعني؛ فإن الكريم لا يخدع، هل أنزل الله على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاكه فلا تسُلَّه على أحد إلا هزمته؟
فقال خالد: لا لم ينزل الله علينا سيفًا من السماء.
فقال جورجه: فبم سُمِّيت سيف الله؟
فقال خالد: إن الله بعث فينا نبيه فدعانا؛ فنفرنا عنه، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا باعده وقاتله وكذبه، فكنت ممن باعده وقاتله وكذبه، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به فتابعناه؛ فقال لي رسول الله : أنت سيف من سيوف الله سلَّه على المشركين، ودعا لي بالنصر فسميت سيف الله بذلك؛ فأنا من أشد المسلمين على المشركين بدعوة رسول الله لي بالنصر، وبتسميته لي أنني سيف من سيوف الله.. (سيف الله المسلول).
فقال جورجه: صدقتني.. ثم قال: يا خالد إلام تدعوني؟
فقال خالد: أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله.
فقال جورجه: فمن لم يجبكم إلى ذلك؟
قال خالد: فعليه الجزية ونمنعه.
فقال جورجه: فإن لم يعطِها؟
قال خالد: نؤذنه بحرب ثم نقاتله.
فقال جورجه: فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم على هذا الأمر اليوم؟
قال خالد: منزلتنا واحدة، فيما افترض الله علينا: شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا.
فقال جورجه: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل ما لكم من الأجر والذُّخْر؟
فقال خالد: نعم وأفضل..
فتعجب جورجه وقال: كيف يساويكم وقد سبقتموه؟
فقال خالد: إنا دخلنا في هذا الأمر وبايعنا نبينا وهو حيّ بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتب ويرينا الآيات، وحُقَّ لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وأنكم وأنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج فمن دخل منكم في هذا الأمر بحقيقة ونية كان أفضل منا عند الله..(وهكذا يبين الرسول في الحديث أن الذى يتمسك بدينه في هذا الزمان: زمان الصَّدِّ عن سبيل الله كالقابض على الجمر، وأجره كأجر خمسين؛ فسأله الصحابة: يا رسول الله خمسين منا أم منهم؟ (أى أجر خمسين من الصحابة أم أجر خمسين من زمانهم) فقال: “بل منكم”، فالقابض على دينه في هذا الزمان والذي يجاهد في سبيل الله ويتقي الله في هذا العصر المليء بالفتن ولا نحسب أن هناك عصرًا أشد فتنة على المسلمين منه حتى هذه اللحظة، والله أعلم بالمستقبل وبالطبع ستكون الفتنة أشدُّ، فالقابض على دينه في ذلك العصر له أجر خمسين من صحابة الرسول بنص الحديث).
فيقول جورجه: بالله لقد صدقتني ولم تخدعني؟
فقال خالد: بالله لقد صدقتك.. وما بي إليك ولا لأحد منكم من حاجة وإن الله لوليُّ ما سألت عنه.
فقال جورجه: صدقتني..
ثم قلب ترسه وقال: يا خالد علِّمني الإسلام..
فأخذه خالد بن الوليد وأسرع به إلى خيمته وشنَّ عليه الماء من قِرْبَة (أي تخفف الرجل من لباسه بعض الشيء وصبَّ عليه الماء ليغتسل) فعلمه الصلاة.
كل ذلك والجيشان مصطفَّان أمام بعضهما لم يحدث بينهما قتال؛ فعلمه الصلاة فصلَّى ركعتين دخل بهما الإسلام ثم انطلق بعد ذلك يقاتل يوم اليرموك بجوار خالد طوال المعركة، حتى منَّ الله عليه بالشهادة في نهاية المعركة.. فاستشهد في هذه المعركة في آخرها وكان في أولها كافرًا, فقال خالد: سبحان الله عَمِلَ قليلاً وأُجِرَ كثيرًا، هذا فضل الله يؤتيه من يشاء..
كل الخير الذى فعله في حياته يوم واحد فقط كان يوم جهاد في سبيل الله فسَبَقَ عليه الكتاب فعمل بعمل أهل الجنة فدخلها، سبحان الله.
وعرض خالد على الأمراء أن يكونوا جيشاً واحداً ويتداولوا الإمارة يوماً بعد يوم ، فوافقوا وأمّروه هو أولاً ، وعلم خالد أن القتال كل بفرقته سيطول ، وفيه إضعاف للجهود فعبأ الجيش وقسمه إلى أربعين كردوساً [ أي: كتائب كبيرة ] كل كردوس ينقسم إلى: قلب وميمنة وميسرة ، وجعل القاضي أبا الدرداء ، والقاص أبا سفيان ، وعلى الغنائم ابن مسعود ، وقارئ سورة الأنفال المقداد بن عمرو ، وشهد المعركة ألف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأمر خالد الكراديس كلها أن تنشب القتال ، وحينئذ وصل البريد إلى خالد بوفاة أبي بكر الصديق وتأمير أبي عبيدة فأخذ الكتاب وجعله في كنانته وخاف إن أظهر الأمر أن يضعف معنويات الجند .
بالنظر لأهمية الفتوحات الإسلامية وفضل الجهاد في سبيل الله فقد كان كبار الصحابة من أوائل المشاركين في معركة اليرموك.
يقول ابن جرير الطبري رحمه الله: “شهد اليرموك ألف من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيهم نحو من مائة من أهل بدر -رضى الله عنهم-، وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس فيقول: الله الله إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك اللهم أنزل نصرك على عبادك”
كانت المعركة على أشدها في حوض اليرموك، وأمير المؤمنين أبو بكر -رضى الله عنه- في المدينة عاصمة الدولة الإسلامية، وكان أبو بكر -رضى الله عنه- قد مرض وأوصى إن مات فالخليفة من بعده عمر بن الخطاب -رضى الله عنه.
وكانت سياسة عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- تختلف عن سياسة أبي بكر الصديق -رضى الله عنه-، فقرر استبدال قيادة الجيش الإسلامي في إقليم الشام من خالد بن الوليد -رضى الله عنه- إلى أبو عبيدة عامر بن الجراح -رضى الله عنه-، وبعث بكتابه الذي يتضمن الأمر بذلك.
يقول ابن الأثير: “قدم البريد من المدينة واسمه محمية بن زنيم وأخذته الخيول فسألوه الخبر، فأخبرهم بسلامة وإمداد، وإنما جاء بموت أبي بكر وتأمير أبي عبيدة، فبلغوه خالداً فأخبره خبر أبي بكر سراً، وأخبره بالذي أخبر به الجند، قال:أحسنت فقف، وأخذ الكتاب وجعله في كنانته وخاف إن هو أظهر ذلك أن ينتشر له أمر الجند”
فلما انتهت المعركة جاء خالد -رضى الله عنه- ليعلن مضمون الكتاب على الملأ، ويضع نفسه جندياً مطيعاً للقائد الجديد للجيوش أبو عبيدة بن الجراح -رضى الله عنه- الذي عينه أمير المؤمنين.

بُشْرَى بنصر المسلمين

بعد الصلاة يلتفت سيدنا أبو عبيدة بن الجراح إلى المسلمين ويقول لهم: أيها الناس أبشروا فإني رأيت في ليلتي هذه فيما يرى النائم، وبدأ يقص عليهم هذه الرؤيا؛ ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ يَقُولُ: “إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّمَا هِيَ مِن اللَّهِ فَلْيَحْمَد اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا, وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِن الشَّيْطَانِ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا وَلا يَذْكُرْهَا لأَحَدٍ فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ”.
فلقد رأى سيدنا أبو عبيدة بن الجراح رؤيا فيها بشرى؛ وأراد أن يبشر المسلمين بها؛ فقال لهم: “رأيت فيما يرى النائم كأن رجالاً أتوني فحفوا بي، وعلي ثياب بيض ثم دعوا لي رجالاً منكم أعرفهم، ثم قالوا لنا: أقدموا على عدوكم ولا تهابوهم فإنكم أنتم الأعلون، ثم مضينا إلى عسكر عدونا فلما رأونا قاصدين إليهم انفرجوا لنا وجئنا حتى دخلنا عسكرهم فوَلَّوا مدبرين”؛ ففرح المسلمون بذلك وقالوا: بشرك الله إن هذه بشرى من الله، واطمأن المسلمون لهذه البشرى وتفاءلوا بها، فقال أبو مرثد الخولاني بعد أن سمع هذه الرؤيا من سيدنا أبى عبيدة بن الجراح: والله إني رأيت أنا الآخر رؤيا؛ فقال أبو عبيدة: فحدِّثْ بها؛ فقال: “إني قد رأيت كأنا خرجنا إلى عدونا فلما توقفنا صَبَّ الله عليهم طيرًا بِيضًا عظامًا لها مخالب كمخالب الأسد وهي تنقضُّ من السماء انقضاض العُقْبَان؛ فإذا حازت بالرجل من المشركين ضربته ضربة يخِرُّ منها منقطعًا، وكان الناس يقولون: أبشروا معاشر المسلمين فقد أيَّدكُمُ الله عليهم بالملائكة “؛ فقال أبو عبيدة بن الجراح: بشَّرَك الله بالخير، هذه والله بشرى من الله..
ونشب القتال بجد في اليوم الأول ، وزحف الروم بأعدادهم الكثيرة فردهم المسلمون ، وفي هذا اليوم كثرت الجراح من كثرة السهام ، واعورّ من المسلمين سبعمائة فارس ، فسمي ذلك اليوم يوم التعوير ، وفي اليوم الثاني وقف عكرمة وقال: من يبايع على الموت ؟ فبايعه أربعمائة من الرجال ، فقاتلوا حتى أصيبوا جميعاً بجراحات ، وكان الهجوم الأخير عاماً على الروم ، واقتحم خالد وجيشه خندق الروم فتساقطوا في الوادي ، وتهافت منهم في الوادي ثمانون ألفاً .
حاول قادة جيش الروم مسك زمام المبادرة في المعركة، مستثمرين الفرق العددي الهائل بينهم وبين جيش المسلمين، فباشروا بالهجوم من أول أيام المعركة، وبالفعل استطاعوا اختراق كراديس الجيش الإسلامي في أول الأمر من الميمنة والميسرة والنفاذ إلى مقر القيادة خلف القلب، والاقتراب كثيراً من خيمة القائد خالد بن الوليد رضي الله عنه، والتحم خيالة الجيش الإسلامي ورجاله مع الروم واظهروا صوراً عجيبة في القتال، والتضحية والفداء. فمن المواقف المشهودة موقف عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه حيث:قال عكرمة بن أبي جهل يومئذ: “قاتلت رسول الله في كل موطن وأفرّ منكم اليوم، ثم نادى من يبايع على الموت فبايعه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور، في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعاً جراحاً وقُتلوا إلا من برأ ومنهم ضرار بن الأزور، قال: وأتي خالد بعدما أصبحوا بعكرمة جريحاً فوضع رأسه على فخذه وبعمرو بن عكرمة فوضع رأسه على ساقه، وجعل يمسح عن وجوههما ويقطر في حلوقهما الماء”
كما قاتلت نساء المسلمين قتالاً مشرفاً ودافعن كمقاتلات مؤمنات عن حياض الإسلام وشوكته، وقد سئل إبراهيم النخعي رحمه الله عن جهاد النساء فقال: “كن يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيداوين الجرحى، ويسقين المقاتلة، ولم أسمع معه بامرأة قتلت، وقد قاتلن نساء قريش يوم اليرموك حين رهقهم جموع الروم حتى خالطوا عسكر المسلمين، فضرب النساء يومئذ بالسيوف في خلافة عمر رضي الله عنه وواجه خالد رضي الله عنه ميسرة الروم التي حملت على ميمنة المسلمين، فقتل منهم ستة آلاف، والتفت إلى أصحابه وقال: “والذي نفسي بيده لم يبقَ عندهم من الصبر والجلد إلا ما رأيتم، وإني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم، ثم اعترضهم فحمل بمائة فارس على مائة ألف منهم، فلم يكد يصل إليهم حتى أنفضَّ جمعهم، وحمل عليهم المسلمون حملة صادقة، فانكشفوا لا يلوون على شيء وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون” .
بعد هذا الاستبسال استطاع مقاتلي الجيش الإسلامي دفع الكتل البشرية من الروم، وإرجاعهم إلى ما كانوا عليه وليعود القتال طبيعياً، واستمر القتال لمدة ستة أيام متتالية، كانت الأيام الأربعة الأولى أيام شدة وضيق على الجيش الإسلامي، مثلما هي على جيش الروم. وتخفت الأصوات في أرض المعركة، فقد حمي الوطيس، ولا يُسمع إلا صوت صهيل الخيول وصليل السيوف، ويسمع صوت مدوٍ يحفز الرجال ويبعث الهمة والعزيمة فيهم، إنه صوت أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه، فعن سعيد بن المسيب، عمن حدثه أنه: لم يسمع صوتاً أشد من صوته -يعني أبا سفيان- يوم اليرموك وهو تحت راية ابنه يقول: “هذا يوم من أيام الله، اللهم أنزل نصرك”
حتى كان اليوم الخامس والسادس، انهارت فيهما قوى جيش الروم، وبانت بوادر نصر المؤمنين المسلمين وهزيمة الروم المشركين. ومن الأمور التي لابد من ذكرها: أن قادة الروم قد ربطوا كل عشرة -أو أقل من ذلك- من جنودهم في سلسلة حديدية واحدة من أجل أن لا يهربوا أثناء المعركة فراداً، فلما كان اشتداد القتال استطاع المسلمون أن يسحبوهم للقتال إلى قرب وادي فحين يقتل من الروم جنديٌ أو يُدفع ليقع في الوادي يسحب معه بقية العشرة فيسقطوا جميعاً، فسقط كمٌ غفيرٌ بلغوا عشرات الألوف من مقاتلة الروم في الوادي. يقول الذهبي رحمه الله: “وكانت الروم قد سلسلوا أنفسهم الخمسة والستة في السلسلة لئلا يفروا، فلما هزمهم الله عز ورجل جعل الواحد يقع في نهر اليرموك فيجذب من معه السلسلة حتى ردموا في الوادي واستووا فيما قيل بحافتيه، فداستهم الخيل وهلك خلق لا يحصون. وهكذا فإن من يُقاتل بلا مبدأ أو عقيدة، ومن يعوزه الإيمان الراسخ ليربطه بقضيته، سيحتاج إلى سلاسل يُربط بها من أجل أن لا يهرب مما جيء به من أجله.



802 Views